•  

        حينما يجرك الحنين إلى مراتع الطفولة، وتبحر بك الذكريات في أيامها الخوالي فتذكر لحظة، يوما، أو عهدا بأكمله  كنت فيه ذلك الطفل الذي  يركب قصبته ظنا منه أنها حصان أو ما شابهه، تحتحتضنك البلدة الحبيبة بمراعيها الخصبة، و أفاقها الرحبة الفسيحة، وأناسها الطيبون الظرفاء الذين كانت تحبل بهم الطرقات أيام السوق الأسبوعي ومن أعدلتهم تفوح روائح الفواكه الموسمية  من تفاح أو برتقال..طبعا فقاطرة الزمن لن تعود إلى الوراء، وسنحمل عذب ذكرياتنا ما بقي العمر مشدودين بأطلالها التي أبلاها الدهر لكنها لازالت تحفظ بين جدرانيها صدى أحداث وشخصيات غيبها الزمن، لن أطيل عليكم هذه الصور من العين البيضاء  بايت عمار وهي مهداة إلى كل الزوار وخصوصا إلى الأخ كهول السي محمد .      

     
     
     
     

     

    4 commentaires
  •  

    الدجاجة اللعينة

     

     

     

     ... " قفوا".."اجلسوا" ما إن نكاد نقترب من الطاولة حتى يضرب المعلم سطح مكتبه بعصاه ضربة مدوية أن قفوا، فنستجمع من جديد أجسادنا الصغيرة المتهالكة للوقوف في حركة واحدة ومنتظمة.. كان يمشي جيئة وذهابا أمام السبورة وهو يلهو  بعصاه بكلتا يديه، تارة يوقفها فوق كفه، و تارة فوق سبابته، تقرفصتُ فوق الطاولة الخشبية واضعا رأسي فوق ذراعي المتشابكين، ومن حوالينا خيم صمت رهيب يكسره بين الفينة و الأخرى طنين الذباب، و وقع أقدام المعلم، كانت كل نوافذ الغرفة مسدودة مما كان يحبس نظراتنا الطائشة التي كانت تبحث عن منفذ للانفلات بعيدا، أو قل كانت كل ما نملكه من حرية في ذلك الظرف، التصق نظري ببعض الصور الملصقة على الحائط: نجار في محترفه، صورة لقناص يصوب بندقيته نحو سرب من الحجل وبجانبه يقعي كلبه في أهبه و استعداد، لوحة لفتاة تفترش الأرض المعشوشبة في وداعة وحبور، تضرب بخمارها على رأسها ومن وجهها الدائري تنبعث رائحة البداوة والبراءة، من حواليها قطيع أغنامها  يلتهم الأعشاب الرطبة من على ضفاف الغدير، والخراف الصغيرة  تقف مشدوهة أمام صورها المتكررة في الماء، خيوط الشمس تلثم أجنحة الفراشات فتجعلها أكثر تلونا ولمعانا..كانت مليكة تكبرني بسنوات عديدة  تزيد على العقد، فتاة في زهرة  العمر، يافعة وبشوشة لا تفارق البسمة محياها، كانت تملأ أرجاء الوادي طربا وهي تتغنى بأحلام شبابها الغض بصوت رخيم تخترق أصداءه الأفاق البعيدة، تردد أغان تداولنها الفتيات في مثل سنها في ذلك الزمن مثل:"مُول لْمَا"، " العَوْد البَرڮِي"، "أَشْ جَا يْدِيرْ"..

       كنت أحيانا أجلس وراء ظهرها ألهو بشعرها الأسود الفاحم المنسدل على كتفيها و المشرب برائحة الطلي ورائحة الدخان، ثم ما أفتأ أغفلها فأسل واحدة منه..تزوجت مليكة فيما بعد، آنها لم أكن أعرف للزواج معنىً، ولما لم أعد أراها، وطال غيابها، سألت أمها في سذاجة : "متى تنتهي مليكة من الزواج؟"  فما كان منها إلا أن أتبعتني بضربة موجعة  بطرف نعلها وبوابل من الشتائم..

       ضرب المعلم سطح مكتبه بعصاه، ضربة أعادتني بعنف من ذكريات الأمس القريب

    ـ صالح!

    ـ حاضر أسْ

    ـ أين البيضتان؟ نهض صالح بخطىً متعثرة، و وضع بيضتا الدجاج فوق المكتب

    ـ و أنت يا علي، كالعادة، أتى الضر على كل دجاجكم؟!! أخرج إلى السبورة.

    كان علي يقول لنا بأنه يفضل الضربات الموجعة لعصا المعلم على لعنات أمه وشتائمها طيلة أسبوع بأكمله.

       واصل المعلم جمع فيئه، و تراكم البيض، وقنينات الحليب واللبن، وبعض كويرات السمن المغلفة بالبلاستيك الأسود، على سطح مكتبه، كما امتلأت أرجاء السبورة  بالقامات المجهدة لمن جاء صفر اليدين، في انتظار عقاب وشيك.

    ـ و أنت يا أحمد، أين الدجاجة؟ قالها المعلم بنظرة استهزاء وسخرية وهو يحاول رفع رأس أحمد بعصاه واضعا إياها تحت ذقنه، كانت الخيبة والخوف وبعض الدموع تملأ وجهه، كنت أجلس بجانبه، لم أكن أحسن حال منه  إذ سرعان ما تملكني الذعر، وازدادت دقات قلبي وتمنيت لو أخترق الجدران الإسمنتية للقسم لأنفلت إلى الخارج.

      مال ميزان النهار نحو الزوال، وبدأت شمس الربيع أكثر حرارة كلما اقترب وقت الحصاد، الحقول المترامية على مد البصر بدأت تخلع عنها رداء الخضرة رويداً لترتدي آخر يأخذ من الذهب لونه وبريقه، أصوات العصافير: القبرة، ابن درس، السمانى، وطائر الحمام البري ،الذي عاد للتو من رحلته الشتائية، تملأ الجو بهجة وحبورا، وضعت المحفظة جانبا و أخرجت من جيبي الكُريات الزجاجية الصغيرة المختلفة الألوان، ثم انهمكت في رسم خط أفقي علي الطريق المترب وغير بعيد عنه ببضع خطوات مثلث صغير، كان أحمد يلف  الدجاجة المكتوفة بردائه، وانغمسنا في لعب "اللْبِيّْ" في جدال كل منا يحاول ربح كريات الآخر.

      حمل أحمد رداءه كان خاليا إلا من بعض الريش العالق به، امتقع لونه و رماني بنظرة استفهام واندهاش دون أن ينبس ببنت شفة، كنت منهمكا بعد كرياتي إن كانت قد زادت أو نقصت..اندس بقامته الصغيرة وسط حقل الشعير عله يعثر للدجاجة على أثر، وابتلعته المسالك الصغيرة، منحني الظهر ومن الفوق لا ترى غير حركة السنابل  تحاكي حركته.

      وقْع أقدام ثقيلة، يقترب مني بسرعة، تسمرت مكاني.. التفت برفق وخوف، كان على بضع خطوات مني يسبقه ظله الطويل، عريض القامة، خشن اليدين، بجلبابه الصوفي المتقادم، والذي بالكاد يتجاوز الركبتان.

      كنا نحن الصغار الصداع الذي ينخر رأس علال بدءاً من استواء الزرع إلى حين حصده، لذلك كان يضبط بتدقيق وقت غدونا ورواحنا، حيث كنا نعيث فسادا في كل الحقول التي تخترقها طريقنا إما بحثا عن أعشاش العصافير، أو للظفر بالسنابل الحبلى بالحبوب..

      أخفيت محفظة أحمد تحت إبطي، وتظاهرت بالمشي وكأن شيئا لم يحدث، تفحصني علال بنظرة شك وغيظ، تمنيت لو أن أحمد بقي مكانه، فكرت في إعلامه، بإطلاق بعض الصفير لكني خفت من ألا يفهم الأمر..

      مشى علال بتبختر وسط حقله بضعة أمتار وهو لا يكاد يخفي  غيظه  حينما رأى المسارب  التي خطتها أقدامنا داخله، ثم توقف فجأة مثل الفزاعة، لست أدري إن كانت رجلاه قد قادتاه بالصدفة نحو الدجاجة، كل ما أدريه هو أن أحمد لما سمع قوقأتها أرهف خطاه وتسلل بلطف لكي لا تنزعج منه..

     ـ الآن ظفرت بك يا ابن الكلاب، ستؤدي الثمن عن الكل..

    أمسك علال بيده اليسرى عنق أحمد، وبدأ ينهال عليه باليمنى دون رحمة أو هوادة، بضربات موجعة وعشوائية..

    ـ لم تعد تكفيك السنابل، الآن تجرؤ على سرق الدجاج!  استسلم أحمد لصراخ مرير تقطعه بين الفينة والأخرى بعض الكلمات التي يخنقها البكاء، فيما كنت قد جريت بعيدا للإفلات بجلدي.

    ـ طيب سأغفرها لك اليوم، أما غدا فسيكون حسابك عسيرا، وتكون الأخيرة!!

    لم يجد أحمد بد من إفشاء حقيقة الأمر، على الأقل، لينتهي بالمرة من أمر المعلم لأن هناك أمور أخرى مازالت في الحسبان، مع أبيه أولا حينما سيستوقفه علال في السوق الأسبوعي ويتهمه أن ابنه أصبح من سُرَّاق الدجاج، ومع أمه ثانيا حينما ستعلم أنه ضيع الدجاجة! تمنيت لو أقصاني من حديثه، لو لم يذكرني، لو لم أكن معه البتة..واسترسل يدقق الأحداث بصوت مبحوح، ونبرات متقطعة إلى أن قاطعه المعلم وقد جن جنونه: فقط لم تأت بها، إنما تواصل السخرية بي.. ثم واصل موجها الخطاب لي هذه المرة: وأنت!!

     خرجنا إلى السبورة معا، وجهت بعض النظرات الخاطفة نحو بقية القسم، كانت بعض البسمات المحتشمة مرسومة على شفاه البعض، لست أدري إن كانت فرحا بالنجاة، أو شامتة بنا..

    ـ مُدَّ يَدَك!

    واحد، اثنان..

    ـ عَيْشَكْ أَسْ

    ثلاثة، أربعة..تسعة، عشرة.

    عدت مكاني لا أكاد أحس يداي، أمسكت بالعوارض المعدنية للطاولة مستجديا من برودتها قليلا من الهدوء، وما أحسست إلا وأحمد يتضور على مقربة مني ويبكي بصوت مسموع..

    <script type="text/javascript"> var gaJsHost = (("https:" == document.location.protocol) ? "https://ssl." : "http://www."); document.write(unescape("%3Cscript src='" + gaJsHost + "google-analytics.com/ga.js' type='text/javascript'%3E%3C/script%3E")); </script><script type="text/javascript"> try { var pageTracker = _gat._getTracker("UA-5964337-1"); pageTracker._trackPageview(); } catch(err) {}</script>

    votre commentaire

  • Voir la galerie

    votre commentaire
  •  

    سلام الله عليك أستاذي الكريم، تحيات حارة من أخيك سي محمد كهول، نحن الايتعماريين أبناء الأم الحنون، ما ذنبها ونحن هجرناها، تركناها شبه وحيدة، المنازل مهجورة، والأراضي مهملة، والأشجار قد اندثرت، والحيوانات والمواشي كذلك قلت، أما الوديان فقد جفت، أمنا تبكي حزينة تنادينا بأعلى صوتها، وتنتظرنا بأحر أشواقها، لكن كل من خرج من حضنها نسي حنانها، نسي الأيام الجميلة، نسي الورود والأزهار التي أفرشتنا إياها، نسي حليبها ولبنها، أمنا أيت عمار لم تبخل علينا ولهذا وجب علينا الاعتراف لها بجميلها، ونرجع إليها ونعانق بعضنا بين أحضانها دون عجرفة أو تكبر كي نلقي البسمة على وجهها، وندخل الفرح و السرور في قلبها، نعيد لها ولو القليل من أيامها حيث المسارب و المسالك مملوءة بالمارة هناك من يمتطي مطيته، وهناك من يمشي على رجليه، أستاذي الكريم أين هي أقداح الشاي، ثغاء الخرفان، خوار البقر؟ وا أسفاه، وا حسرتاه، إخوتي أبناء أيت عمار هلموا لعناق أمكم إننا نجري خلف عقارب ساعة الزمن وهي تدور بسرعة، قد لا ينفعك الندم يا من سولت لك نفسك شراء سكنى في الدار البيضاء أو الرباط أو سلا أو تمارة أو عين العودة أو ...يوم تصبح عجوزا غريب الأهل و الديار، فمن يجالسك؟ ومن يحاكيك؟ قد تتعطش لشروق شمس الصباح، وغروب مساء أيت عمار، أنا واحد من أبناءها احتضنتني سبع سنوات فقط، والآن عمري أربعون سنة لكن أعدك أيت عمار كل الوعد بالرجوع إن شاء الله إليك والعيش بين سواعدك، إن كان يوم فهو يوم، وإن كان شهر فشهر، وإن كان عام فعام وإن كان ما بقي من العمر فذاك.

      


    votre commentaire
  • موسم المطر

     

     

     

    أتعلمون أي فرح يبعثه المطر؟ وكيف تٌنسج الأحلام إذا انهمر؟ أحلام بالخصب والجمال، وبفرقعات البارود في مواسم الزفاف الوشيكة،  حينما يغسل وجهك الرذاذ، وتداعب انفك رائحة الأرض، يجرك الحنين إلى أيام خلت، وتستحوذ عليك الذكريات فتعلكها علكا، وتجترها اجترارا، فيسكنك الطفل الذي كنتَه ذات يوم، يعدو فوق الروابي التي بدأت تعشوشب للتو يجمع "الفقع" أو يقلب بعض الأحجار بحثا عن الحلزون، ينام، يستيقظ..على وقع طقطقات المطر فوق سقف القصدير، فينبعث من دخائله الفتية إحساس غامض، وتستفيق ملء روحه رعشة البكاء، يجلس في حضن أمه يلعب بالنار حينما تطهو العشاء، يسخر من الظلام الحالك  ومن المطر.

    حينما تنبعث رائحة التراب المشرب بالمطر من أعماق الأرض العطشى، كل شيء يتغير بما في ذلك طباع الناس  في أيت عمار فتعلو وجوههم الشاحبة مسحة من الأمل ممزوجة بالغبطة والسرور، لها طعم أطباق "الخبيزى" بالحليب، وتعاودهم نشوة ذكريات مواسم مضت، مواسم تراكمت فيها الخيرات، وكان فيها "العسل في الكلخ" كما يحلو للبعض أن يقول..<<حينها كان المطر مطرا، وكانت مواسمه  تطول، ولا ترى الشمس غير مرات معدودة، أما الخبيزى فتغمر جنبات المنازل، وما إن تكاد تخرج "الّْلْيالِي" حتى تشبع البهائم، ونأكل أولى أطباق"البركوكش"..>> قالها العم سليمان ومسحة من الأسى و الأسف بادية على محياه، بجلبابه الصوفي البني، وعمامته البيضاء المدورة بإحكام  على رأسه المحلوق، وهو يفترش التراب الرطب المبتل بماء السماء، كنت جالسا بالقرب منه ألهو ببعض صغار الحلزون  التي مازال بعضها  عالقا بالأحجار المتناثرة من حوالينا، رفعت رأسي نحوه غير مكترث بما يقول ثم انغمست في عالمي الطفولي من جديد، تابع قائلا: << اليوم أصبحت البركة تنزل على قد عقول الناس، وكذلك القطر، كانت البساطة، وكان الكرم وكانت الأرض رحبة ومتسعة، أما الآن فقد سادت الفوضى، وعم الفساد، وغلب الجشع والطمع وحب المدينة على عقول الكل ..>>

    لم أكن أعي كل ما قاله، إنما كنت بين الفينة والأخرى أرفع رأسي لأتفرج على أطواد السحب الدكناء التي لا تهدأ حركتها، أما قرص الشمس، إن ظهر، فقد بدا أكثر شحوبا وأحيانا يخيل إليك أنه هو الذي يتحرك في الاتجاه المعاكس للغيوم.

    حملقت بنظري نحو الأفق، بدأت مسحة رقيقة من الضباب تكسو "الحاشية" وتكتسح المناطق المجاورة بسرعة، أومأ لي العم سليمان بأن ألحق بدارنا، وهو يستجمع قواه للنهوض، أمسكت بدكة سروالي بيد، وأمسكت بالأخرى نعلي المتقادمين وأطلقت  ساقي للريح يدفعني انحدار الربوة الجميلة...بدأت الأمطار تغسلني، واستبدت بي رغبة في البكاء، تذكرت الصبا واشتقت له، وقلت في نفسي ما قيمة الإنسان بلا وطن، بلا أرض، ودونما عنوان، ما قيمة الإنسان؟؟؟ وعاودني الحنين إلي حضن أمي أيت عمار، وإلى أيامها الخوالي، حيث كان المطر مطرا، كما قال العم سليمان حينها، تمنيت لو توقف الزمن لحظتها لكن هيهات..

    كان المطر يترائ لي قويا وكثيفا تحت أضواء الشارع، وفي مصابيح السيارات، وزاد من تثاقل خطاي وتعثرها إلى أن ابتلعني آخر مقهىً ليلي، وابتلع معي كل ذكريات العهد الجميل.  

    <script type="text/javascript"> var gaJsHost = (("https:" == document.location.protocol) ? "https://ssl." : "http://www."); document.write(unescape("%3Cscript src='" + gaJsHost + "google-analytics.com/ga.js' type='text/javascript'%3E%3C/script%3E")); </script><script type="text/javascript"> try { var pageTracker = _gat._getTracker("UA-5964337-1"); pageTracker._trackPageview(); } catch(err) {}</script>

    4 commentaires